احتضنت مدينة ألاك يوم أمس الإثنين أعمال ندوة نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية، وتميزت بمحاضرة ألقاها د/ الشيخ ولد الزين عضو المجلس الإسلامي الأعلى، تحت عنوان: "الخطبة الدينية في ضوء القصد من مشروعيتها"
وهذا نص المحاضرة:
لمحة تاريخية عن الخطابة
قبل الشروع في الحديث عن( الخُطبة والخطيب) نودُّ أن نتعرَّف المعنى اللُّغوي لمادّة(خَطَبَ) ومشتقّاتها.
إذا رجعنا إلى معاجم اللُّغة العربيَّة وقواميسها فسنجد أنَّ مادّة (خَطَبَ) تدلّ على معنَييْن أصليين هما: الطَّلَب، والمواجهة بالكلام.
فأمّا دلالتها على الطلب:
فقد جاء في " أساس البلاغة"للزمخشريّ:من المجاز:فلان يخطُب عمل كذا: يطلُبه.
وأمَّا دلالتها على المواجهة بالكلام:
فقد جاء في"أساس البلاغة"أيضاً: خاطبَه أحسن الخطاب، وهو المواجهة بالكلام.
وجاء في "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهانيّ: الخَطْب والمخاطبة والتخاطُب: المراجعة في الكلام.
والخَطْب الأمر العظيم الذي يكثُر فيه التخاطب،قال تعالي:
"قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ"(1) وقال}قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(
ومن خلال هذين المعنيَيْن اللِّذين دّلّت عليهما مادّة (خَطَبَ)نفهم ما يلي:
أنَّ (الخَطابة): مصدر على وزن(فَعًالة)نحو: كَرامة ونَباهة: معناه القيام بفعل المواجهة بالكلام مع طلب الإصغاء. وأنّ(الخُطْبَة): اسم للكلام الذي يتكلَّم به الخطيب، فهي الألفاظ المنثورة التي يواجه بها المتكلّم جمهوراً من الناس. وتُسمّى أيضاً (خِطاباً) فنقول :ألقى فلانُ خُطْبةً وخِطاباُ.
وأنَّ( الخطيب) : هو الذي يقوم بفعل الخطابة ، ويُحسن الخُطبة فقد جاء في "القاموس المحيط": ورجل خطيب: حسن الخُطبة.
وجاء في "المفردات" للراغب الأصفهانيّ:ويُقال من الخُطبة خاطب وخطيب.
و من خلال المقدِّمة اللُّغويَّة السابقة نستطيع أن نجعل كلمة (خَطابة) عَلَماً على عِلْمٍ فنقول:
الخطابة: هي علم معرفةِ طُرُق أداء الكلام ونقلِ الأفكار إلى عقول السامعين وأحاسيسهم بصورة مخصوصة وصفات معينة مع قصد التأثير والإقناع
وقد عرف العرب بفصاحتهم وبلغوا في ذلك شأوا بعيدا وكان الخطيب فيهم ذا مكنة سامقة ومنزلة كبيرة وكانت الخطبة حينها بحسب حال الناس
وحاجاتهم .
- فهناك خطب الحماسة ومن أشهرها خطبة هانئ بن قبيصة الشَّيبانيّ الشهيرة التي حثّ فيها قومه على قتال الفرس يوم(ذي قار)، والتي قال فيها:
"يا معشر بكرٍ، هالِكُ معذور خيرُ من ناجٍ فَرور،إنَّ الحذر لاُينجي من القدر ، وإنَّ الصبر من أسباب الظفر ،المنيَّة ولا الدنيَّة،استقبال الموت خيرُ من استدباره، الطَّعن في ثغر النُحور أكرم منه في الأعجاز والظُّهور، يا آل بكر، قاتلوا فما للمنايا من بدِّ".
- وهناك خُطب الصلاح:
وهي التي يلقيها ذوو الحكمة وأصحاب الرأي والمنزلة في القوم لإصلاح ذات البين ورأب الصدع بين القبائل المتناحرة،نحو الخطبة التي ألقاها قيس بن خارجه في الإصلاح بين عبس وذبيان إثر حرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين عاماًَ.
وجاء أنّهم قالوا له:ماعندك؟
فقال :عندي قِرى كلِّ نازل، ورضا كلِّ ساخط ،وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب آمر فيها بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع.
قالوا:فخطب يوماً إلى اللَّيْل ،فما أعاد فيها كلمةً ولا معنىً.(2)
- وهناك خُطب الوعظ والإرشاد:
ويلقي هذا الضرب من الخُطب عقلاء القوم وأرباب الحكمة فيهم وذوو البصيرة والعلم والصلاح من رجالهم.
ومن أشهر خطبائهم في ذلك قُسّ بن ساعدِة الأياديّ.كان يخطب في المواسم يعظ الناس ويرشدهم، ومن خطبه الشهيرة تلك الخطبة التي رُوى عن النبي rأنّه سمعها من قُسّ يُلقيها على الناس في الموسم في سوق (عُكاظ) وجاء في نص خطبة:
أيُّها الناس، اجتمعوا،واسمعوا وعُوا، إنّه من عاش مات،ومن مات فات،وكل ما هو آتٍ آت،ليل داجٍ(1)،ونهار ساجٍ(2)، وسماء ذات أبراج (3) ونجوم تزهر(4)،وبحار تزخر(5) وجبال مُرساة(6)،وأرض مُدحاة(7)، وأنهار مجراة.
إنّ في السماء لخبراً،وإنّ في الأرض لعِبرا،ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟أرضوا فأقاموا؟أم تركوا فناموا؟ يا معشر إيادٍ،أين الآباء والأجداد، وأين الفراعنة الشّداد؟
ألم يكونوا أكثر منكم مالاً وأطول آجالاً؟طحنهم الدهر بكلكله(8)،ومزقهم بتطاوله:
في الذاهبين الأولين مـن القـرون لنا بصائر
لما رأيت موارد للموت ليس لها مصادر(9)
ورأيت قومي نحوه يسعى الأصاغـر والأكابر
لا يرجع الماضي إلىّ ولا مـن الباقين غابـر
أيقنت أنيّ لا محالة حيث صار القـوم صائر
- وهناك -خُطب الوفــــود:
وهي التي تُلقى في مجالس الملوك والأمراء تهنئةً لهم أو تعزيةًَ أو تعبيرا ًعن ولائهم أو دعاء لتحقيق بعض مقاصدهم .
منها في التهنئة:خطبة عبد المطِلب أمام سيف بن ذي يَزَن حين استردَّ ملكه من الحبشة بعد انتصاره عليهم ،قال فيها(1):
إنَّ الله تعالى- أيُّها الملك- أحلّك محلاً رفيعاً، صعباً منيعاً،باذِخاً(2)شامخاً، وأَنْبَتَك منبتاًً طابت أَرومته(3)، وعزَّت جُرثومته(4)،ونُبل أصله،وبسَقَ(5) فرعه، في أكرم معدِن وأطيب موطن. فأنتَ ـ أبيت اللَّعن ـ رأسُ العرب وربيعُها الذي تُخصِب، وملكُها الذي تنقاد ،وعَمُودُها الذي عليه العماد، ومعقِلُها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خيرُ سَلَف، وأنت لنا بعدهم خيرُ خَلَفُ،ولن يهلك من أنت خلفه ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيّها الملك أهل حرَمِ الله وذمَّته،وسَدَنه(6)بيته،أشخصنا(7)إليك الذي أنهجك لكشفك الكرب الذي فدحنا،فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة(8)
- ومنها في التعزية:خطبة أكثم بن صيفي في تعزية عمرو بن هند ملك العرب بأخيه جاء فيها:
إنّ أهل هذه الدار سَفْر(9) لايَحلُّون عُقد الرَّحال إلاَّ في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك وارتحل عنك ما ليس براجع إليك،وأقام معك من سيظعن(10) عنك ويدعك .واعلم أنّ الدنيا ثلاثة أيّام، فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه،وأبقى لك وعليك حكمته، واليوم غنيمة، وغداً لاتدري من هو أهله ،وسيأتيك إن وجدك، فما أحسن الشكر للمنعم[5] والتسليم للقادر، وقد مضت لنا أصول نحن فروعها ،فما بقاء الفروع بعد أصولها ،واعلم أنّ أعظم من المصيبة سوء الخلف منها، وخير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله.
- ومنها في الإشادة بين أيدي الملوك: خطبة عمرو بن معد يكرب الزبيدي التي ألقاها .
أمام كسرى ملك الفرس وجاء فيها:
"إنمّا المرء بأصغَرَيْه: قلبه ولسانِه، فبلاغ المنطق الصَّواب، ومِلاك النُّجْعة(1) الارتياد، وعَفُو الرأي خَيْر من استِكْراه الفِكْرة،وتوقُّفُ الخِبْرة خير من اعتساف(2) الحَيْرَة ، فاجتبِذْ(3) طاعتنا بلفظك،واكتظم (4)بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يَسْلُسْ لك قيادُنا، فإنّا أنُاس لم يُوقَّس(5)صفاتنا قراع مناقير(6) من أراد لنا قضماً،(7)،ولكن منعنا حمانا من كلّ من رام لنا هضماً.
وقد شرع اللّه سبحانه خطبة الجمعة، وجعلها جزءًا أصيلا من تشريعات هذا الدين.
-فبُنيتْ من أجلها المنابر.
-وأوجب حَضورَ المسلمين لها فلم يتخلف عنها إِلا معذور أو محروم.
-و أوجب اللّه على المسلمين الاستماع والإِنصات للخطيب.
فمن قال لصاحبه: أنْصتْ فقد لغا، ولا جمعة له.
ومن مَسَّ الحصى فقد لغا ولا جمعة له.
فكيف كان النبي صلي الله عليه وسلم يخطب ؟
من خلال تتبع واستقراء غير تام يمكن الخروج بما يلي :
* كان صلي الله عليه وسلم يخطب قائما. كما في حديث جابر بن سمرة t عند مسلم وأبي داود. وقد استدل كعب بن سمرة t على ذلك بقوله تعالى: { XE "30:وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله" \y "1" \b #sÎ)ur(#÷rr&u¸ot»pgÏB÷rr&#·qølm;(#þqÒxÿR$#$pkös9Î)x8qä.ts?ur$VJͬ!$s%4 } ([1]) كما في الحديث عند مسلم والنسائي.
* كان يخطب على المنبر. لما ثبت أنه r كان له منبر يخطب عليه.
* كان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس. كما في حديث ابن عمر - رضي اللّه عنهما - عند البخاري ومسلم وغيرهما.
* كان يقرأ القرآن في الخطبة ويُذكّر الناس. كما في حديث جابر بن سمرة السابق، وفي حديث جابر بن عبد اللّه عند مسلم وغيره: { "يقرأ بآيات من القرآن ويذكر الناس" \يقرأ بآيات من القرآن ويذكّر الناس } ([2]).
* كان يشير إِشارة خفيفة بيده بإِصبعه المسبّحة. كما يدل عليه حديث عمارة بن رويب t عند مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي.
* { "كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش،" \كان إِذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبّحكم ومسّاكم } ([3]) كما في حديث مسلم والنسائي عن جابر بن عبد اللّه.
وفي رواية للنسائي: { "وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير" \وكان إذا ذكر الساعة احمّرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش، يقول: صبّحكم ومساكم } ([4]).
* كانت صلاته r قَصْداً؛ وخطبته قَصداً. كما في حديث جابر بن سمرة t عند أبي داود. وله: { "كان رسول الله لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات" \كان رسول اللّه r لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هن كلمات يسيرات } ([5]).
وفي حديث عمّار t{ XE "32:إني سمعت رسول الله يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه،" \y "1" \b إني سمعت رسول اللّه r يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنّة من فقْهه، فاقصروا الخطبة وأطيلوا الصلاة، وإن من البيان لسحراً } ([6]) أخرجه مسلم. وفي رواية عنده وعند أبي داود عن عمار قال: { XE "32:أمرنا رسول الله بإقصار الخطبة" \y "1" \b أمرنا رسول اللّه r بإقصار الخطبة } ([7]).
* وقد كان كلامه r بصفة عامة قليلا لو عده العادّ لأحصاه.
* وقد كان في بعض كلامه r تكرار للكلام حتى يفهم عنه.
ثانيا - أنواع الخطب النبوية
كان النبي r يخطب خطبَا عامة وخطباً خاصة، وخطباً راتبة في الجمع والأعياد ونحوها، وخطباً عارضة بحسب الأسباب والدواعي.
وكانت خطبه كلّها دعوة إِلى اللّه، وإِلى صراطه المستقيم، وتوضيحاً للأصول النافعة والأعمال الصالحة، وترغيباً في أصناف الخيرات والإِحسان إِلى المخلوقات، وترهيباً من الأعمال الضارة والأخلاق السيئة.
وكان الغالب على خطبه الاختصار والاقتصار على ما يحصل به المقصود. ويقول: { XE "32:إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة" \y "1" \b إِن طول صلاة الرجل وقصَرَ خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة } ([8]).
وكانت مواعظه على نوعين:
نوع يعظ الناس وعظاً مطلقاً ويُرغب في الخير ويرهب من الشر، ويشوّق إِلى ما أعد اللّه للطائعين من الكرامة، ويحذِّرهم مما أعدّ اللّه للعاصين من الإهانة؛ ليثير في القلوب الإيمان، والرغبة في الخير والرهبة من الشر.
ونوع من وعظه يُفصِّل ما يحتاج الناس إلى تفصيله، ويوضحه لهم توضيحا.
فالنوع الأول: وعظ وإيقاظ وتذكير.
والنوع الثاني: تبيين وتعليم وتفصيل.
وكان يراعي في وقت حال ما يحتاج الناس إِلى بيانه، لا يتكلف السجع ولا التعمق. بل جُلُّ قصده r إِبلاغ المعاني النافعة بأوضح العبارات وأقصرها. ولقد أوتي r جوامع الكلم. وكان يردد اللفظ أو المعنى حسب ما يحتاج المقام إِلى ترديده وهذا أولى ما يعتمده الخطيب، ولا بأس مع ذلك بمراعاة تحسين الألفاظ من غير تكلف ([9])
يقول الشيخ محمد الغزالي:
1 - يحسن أن يكون لخطبة الجمعة موضوع واحد، واضح غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا، فإن الخطيب الذي يخوض في أحاديث كثيرة يشتت الأذهان ويتنقل بالسامعين في أودية تتخللها فجوات نفسية وفكرية بعيدة، ومهما كانت عبارته بليغة، ومهما كان مسترسلا متدفقا، فإنه لن ينجح في تكوين صورة واضحة الملامح لتعاليم الإسلام.
والوضوح أساس لا بد منه في التربية. والتعميم والغموض لا ينتهيان بشيء طائل، وخطبة الجمعة ليست درسا نظريا بقدر ما هي حقيقة تشرح وتغرس.
2 - عناصر الخطبة يجب أن يسلم أحدها إلى الآخر في تسلسل منطقي مقبول، كما تسلم درجة السلم إِلى ما بعدها دون عناء بحيث إِذا انتهى الخطيب من إِلقاء كلمته كان السامعون قد وصلوا معه إلى النتيجة التي يريد بلوغها. وعليه أن ينتقي من النصوص والآثار ما يمهد طريقه إِلى هذه الغاية.
3 - ولما كانت الخطبة الدينية تنسج من المعاني الإسلامية المستمدة من [الكتاب والسنة] وآثار السلف الصالح فإن لحمتها وسداها يجب أن يكون من الحقائق المقبولة، وفي آيات القرآن الكريم، ومعالم السنة المطهرة متسع يغني في الوعظ والإِرشاد. ولذلك لا يليق أن تتضمن الخطبة الأخبار الواهية...
وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة مجال رحب للخطيب الفاقه. في سيرة الرسول r والخلفاء الراشدين والأئمة المتبوعين ما يغني عن الأساطير والأوهام.
4 - لا يجوز أن تتعرض الخطبة للأمور الخلافية، ولا أن تكون تعصبا لوجهة نظر إِسلامية محدودة.. فإِن المسجد يجمع ولا يفرق، ويلم شمل الأمة بشعب الإِيمان التي يلتقي عندها الكل دون خوض في المسائل التي يتفاوت تقديرها، وما أكثر العزائم والفضائل التي تصلح موضوعاً لنصائح جيدة وخطب موفقة. وقد شقي المسلمون بالفرقة أياماً طويلة، وجدير بهم أن يجدوا في المساجد ما يوحد الصفوف ويطفئ الخصومات.
5 - بين الخطبة والأحداث العابرة، والملابسات المحيطة، والجماهير السامعة، علاقة لا يمكن تجاهلها، ومما يزري بالخطيب ويضيع موعظته أن يكون في واد، والناس والزمان والمكان في واد آخر.
ولأمر ما نزل القرآن منجماً على ثلاث وعشرين سنة. فقد تجاوب مع الأحداث وأصاب مواقع التوجيه إِصابة رائعة.
ولما كان القرآن شفاء للعلل الاجتماعية الشائعة، فإن الخطيب يجب عليه أن يشخّص الداء الذي يواجهه، وأن يتعرف على حقيقته بدقة. فإذا عرفه واستبان أعراضه وأخطاره رجع إلى آي الكتاب والسنة فنقل الدواء إِلى موضع المرض. وذلك يحتاج إِلى بصيرة وحذق فإن الواعظ القاصر قد يجيء بدواء غير مناسب فلا يوفق في علاج. وربما أخطأ ابتداء في تحديد العلة فجاءت خطبته لغواً وإِن كانت تتضمن مختلف النصوص الصحيحة.
6 - من الخير أن تضمن خطبة الجمعة أحيانا شيئاً من أمجاد المسلمين الأولين الثقافية والسياسية وتنويهاً بالحضارة اليانعة التي أقامها الإسلام في العالم مع الإِشارة إِلى أن ينابيع هذه الحضارة تفجرت من الحركة العقلية التي أحدثها القرآن الكريم واليقظة الإنسانية التي صنعها الرسول r ويكون الغرض من هذه الخطب - على اختلاف موضوعاتها - أن ترجع إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم العالمية.
7 - معروف أن هناك فلسفات أجنبية ونزعات إِلحادية تسربت إِلى الأمة الإِسلامية في كبوتها التاريخية الماضية، وطبيعي أن تتعرض الخطبة إِلى درء هذه المفاسد النفسية عن أبناء الأمة، ووظيفة الخطبة في الإِسلام عندئذ أن تتجنب الأخذ والرد والجدال السيئ... ولكن تعرض الحقائق الإِيجابية في الإِسلام بقوة، وترد على الشبهات دون عناية بذكر مصدرها لأن المهم هو حماية الشريعة الإسلامية.. وليس المهم تجريح الآخرين وإِلحاق الهزائم بهم.
8 - قبل أن يواجه الخطيب الجمهور ينبغي أن تكون في ذهنه صورة بينة لما يريد أن يقوله. بل يجب أن يراجع نفسه قبل الكلام ليطمئن اطمئناناً إِلى صحة القضايا التي سوف يعرضها، وإِلى سلامة آثارها النفسية والاجتماعية.
وعليه أن يتثبت من الأدلة والشواهد التي يسوقها في معرض الحديث فإِن كان قرآنا حفظه جيداً وِإن كان سنة رواها بدقة، وإِن كان أثراً أدبياً أو خبراً تاريخياً فإِن توفيقه يكون بحسب مطابقته أو اقترابه من الأصل المنقول عنه.
إِن التحضير المتقن دلالة احترام المرء لنفسه ولسامعيه، وقد تَفْجأ الإِنسان مواقع يرتجل فيها ما يلقى به الناس ويصور ما بنفسه.
والواقع أن القدرة على الارتجال تجيء بعد أوقات طويلة من الدربة على التحضير الجيد وعلى تكوين حصيلة علمية مواتية لكل موقف. ومع ذلك فإن المهارة في الارتجال لا تغني عن حسن التحضير للعالم الذي يريد أداء واجبه بأمانة وصدق والذي يقدر إنصاف الناس له واحتفاءهم بما يقول.
9 - الإيجاز أعون على تثبيت الحقائق، وجمع المشاعر والأفكار حول ما يراد به من تعاليم.
فإِن الكلام الكثير ينسي بعضه بعضا، وقد تضيع أهم أهدافه في زحام الإفاضة، ألا ترى أن الأرض تحتاج إِلى قدر محدد من البذور كيما تنبت، فإذا كثر النبات بها تخللها الفلاح باجتثاث الزائد حتى يعطي البقية فرصة النماء والإِثمار.
كذلك النفس البشرية لا تزكو فيها المعاني إِلا إذا أمكن تحديدها وتقويمها، أما مع كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فإِن السامع يتحول إِلى إِناء مغلق تسيل من حوله الكلمات مهما بلغت نفاستها.
وللإِطناب الممل أسباب معروفة منها سوء التحضير، فإن الخطيب الذي يلقى الناس بالجزاف من الأحكام والتوجيهات لا يدري بالضبط أين بلغ بقوله، وهل وصل إِلى حد الإِقناع أم لا فيحمله ذلك على التكرار والإِطالة.. وما يزداد من الجمهور إِلا بعدا.
وقد تنشأ الإِطالة عن سوء التقدير للوقت والموقف فيظن الخطيب أن بحسبه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا طوعاً وكرهاً - وهذا خطأ - ومما يحكى في قيمة الإيجاز أن أحد الرؤساء طُلب منه إلقاء خطبة في بضع دقائق فقال:(أمهلوني أسبوعاً) فقيل له: نريدها في ربع ساعة فقال: (أستطيع بعد يومين) قيل له: فإذا طلبناها في ساعة؟ قال: (فأنا مستعد الآن) إِن الإيجاز يتطلب الموازنة والاختيار والمحور والإِثبات.
أما الكلام المرسل فالجهد العقلي فيه أقل، والحقيقة أن خمسة دقائق تستوعب علما كثيرا، وعشر دقائق وخمس عشرة دقيقة تستوعب خطبة أو محاضرة جيدة ([10])
وقد جاء في توصيات مؤتمر رسالة المسجد المنعقد برابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمّة، في الفترة من 15 رمضان 1395 - 20 رمضان 1395 هـ فيما يتعلق بخطبة الجمعة ما يلي:
أولا: ينبغي أن تهدف خطبة الجمعة إلى تحقيق الأغراض التالية:
(أ) الوعظ والتذكير باللّه تعالى وبحسابه وجزائه في الآخرة وبالمعاني الربانية التي تحيا بها القلوب، والدعوة إِلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(ب) تفقيه المسلمين وتعليمهم حقائق دينهم من كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله r مع العناية بسلامة الأخلاق والآداب من الغلو والتفريط.
(ج) تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإِسلام، وردّ الشبهات والأباطيل التي يثيرها خصومه لبلبلة الأذهان، بأسلوب مقنع حكيم، بعيد عن المهاترات والسباب، ومواجهة الأفكار الهدامة والمضللة بتقديم الإِسلام الصحيح باعتباره منهج الأمة الأصيل الذي ارتضاه اللّه لها، وارتضته لنفسها دينا، مع إِبراز خصائصه من الشمول والتوازن والعمق والإِيجابية.
(د) ربط الخطبة بالحياة، وبالواقع الذي يعيشه الناس، وذلك بالتركيز على علاج أمراض المجتمع، وتقديم الحلول لمشكلاته مستمدة من الشريعة الإِسلامية الغراء، مع إِعطاء عناية لشؤون المرأة والأسرة المسلمة نظراً لما تتعرض له من فتنة يحرك تيارها أعداء الإسلام.
(هـ) مراعاة المناسبات المختلفة التي تتكرر على مدار العام مثل رمضان والحج وغيرهما، مما يشغل أذهان المستمعين ويشوقهم إِلى معرفة تنير لهم الطريق بشأنه.
(و) تثبيت معنى أخوة الإسلام ووحدة أمته الكبرى، ومقاومة النزعات والعصبيات العنصرية والمذهبية والإقليمية وغيرها المفرقة للأمة الواحدة، والاهتمام بقضايا المسلمين داخل العالم الإسلامي وخارجه، حتى لا ينفصل المسلم فكريا وشعوريا عن إِخوانه المسلمين في كل مكان.
(ز) إِحياء روح الجهاد والقوة في نفوس الأمة، وإِشعال جذوة الحماس لحماية حرمات الإِسلام ومقدساته، وأوطانه، وصون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم والدفاع عن عقيدة الإسلام وشريعته، والعمل لإزالة الطواغيت المعوقين لسير دعوته.
ثانيا: يجب أن تتنزه خطبة الجمعة عن أن تتخذ أداة للدعاية لشخص أو حزب أو نظام، وأن تكون خالصة للّه تعالى ولدينه، وتبليغ دعوته وإعلاء كلمته
ثالثا: ينبغي ألا تفرض على الخطيب خطبة موجهة من قبل السلطان، يرددها ترديداً آليا لا روح فيه، وأن تترك له الحرية لاختيار موضوعه وإِعداده وأدائه بالطريقة التي يرضاها عقله وضميره، وفقاً لما درسه من كتاب ربه وسنة نبيه r.
رابعاً: على العلماء والدعاة الأكفاء أن يضعوا أمثلة رفيعة لموضوعات إسلامية متنوعة، تشتمل على المواد الأساسية لبناء الخطبة في صورة أدلة وشواهد من الكتاب والسنة والسيرة والتاريخ الإِسلامي، والأقوال المأثورة، والشعر البليغ لتكون في أيدي الخطباء في شتى الأقطار الإِسلامية؛ ليستعين بها من يحتاج إِليها في إعداد الخطبة.
خامسا: يجب أن يعتمد في إِعداد الخطبة على مصادر المعرفة الإِسلامية الموثقة وأن يترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والإِسرائيليات المدسوسة والحكايات المكذوبة، والمبالغات المذمومة لكل ما لا يسنده نقل صحيح، أو عقل صريح.
سادساً: يجب أن تكون لغة الخطبة في البلاد العربية هي الفصحى السهلة المفهومة وأن تبعد عن العامية، وعن تكلف الأسجاع، والألفاظ الغريبة على الأسماع.
أما في غير البلاد العربية، فيكفي أن تكون مقدمة الخطبة وأركانها باللغة العربية، وأما موضوع الخطبة فيجب أن يكون باللغة التي يفهمها الحاضرون.
سابعا: ينبغي أن يكون أداء الخطبة طبيعيا، بعيداً عن التغني والتشدق والصياح وكل مظاهر التكلف المنفر.
ثامنا: ينبغي ألا يطيل الخطيب إلى حد يثقل على المستمعين وينفرهم من سماع الخطبة، وألا يقصر إِلى حد يخل بموضوعه ويبتره.
تاسعا: خطبة العيد ينطبق عليها ما سبق بالنسبة لخطبة الجمعة، مع وجوب رعاية المناسبة الخاصة بكل عيد من عيدي الإسلام، وأن يكون لها طابع الشمول والتذكير العام بمبادئ الإسلام ([11])